عاد الدّبّ الروسي إلى التّوهّج ، وعاد البريق الدبلوماسي والسياسي والعسكري يأخذ حيّزا منذ بداية الألفية الثانية بعد عقد ثمانيني مظلم ، ضرب معه المعسكر الإشتراكي أخماسا بأسداس بعد انهيار على مختلف الصعد وإخفاق في شتى المجالات أفضى إلى انهيار الإتحاد السوفياتي سنة 1991. أعاد الإتحاد الروسي بقيادة الثّعلب “بوتين ” ترتيب الأوراق والأولويّات وذلك باقتلاع العصي من الدواليب وتفكيك الخطّة الأميركية القديمة –الجديدة بتقليص نفوذ وسيطرة الإتحاد الروسي الجغرافية والسياسيّة ، ذلك النفوذ الذي كان على شفا حفرة من الغياب وقادما لا محالة نحو الإضمحلال . ما بين أوكرانيا والقرم والعودة إلى المياه الدافئة وقبلهما الشيشان أعاد الروس تصدّر المشهد ليكونوا رقما صعبا في المعادلة . ولكن ماذا عن الإقتصاد الروسي؟ يبلغ الناتج المحلي لروسيا 1.7 تريليون دولار أي أقل ب300 مليار دولار من الناتج المحلي لإيطاليا ، كما تتخطاها كندا أيضا .إنّ روسيا ليست دولة ضعيفة إقتصاديا ولكن لتصحيح المفهوم الخاطىء والذي يعمم دائما للأسف من قبل إقتصاديين مختصّين ، فإن روسيا هي دولة إقتصادها لا يتناسب مع كبر المساحة وعِظم الموارد ولديها المشكلة الابرز وهي عدد السّكّان . روسيا عدد سكانها 143 مليون نسمة وهي من الدول التي لا تفتح ابوابها للهجرة إذ لها خصوصية معيّنة وتبغي دوما الحفاظ على تلك الخصوصية الإجتماعية والثقافية والحضارية.روسيا من أكبر دول العالم في إنتاج الماس كما أنها أكبر منتج للنفط في العالم وثاني أكبر دولة مصدرة له في العالم بعد السعودية ، ولديها أكبر إحتياط للغاز في العالم وهي أيضا تتحكّم بأكبر شبكات الغاز إلى أوروبا وآسيا وتعتبر ايضا أكبر مصدّر للحبوب ( القمح ، الذرة، الشعير) ، واستطاعت باستراتيجية محبوكة أن تتخطّى الولايات المتحدة وكندا في هذا الإطار . ورغم هذه الوضعية التي لا تتناسب مع الموارد استطاع الإتحاد الروسي المؤلّف من 21 جمهورية والباقي مقسم إلى مقاطعات وأقاليم أن يبني مؤسسات عسكرية رائدة وأن يعزز إرثا تكنولوجيا كبيرا ، ففي الإتحاج أكبر قاعدة علماء في العالم (فيزياء، كيمياء، أوبئة) . إن الذي يميز الروس هو رشادتهم في توظيف الموارد ،وهو إرث سوفياتي ، إذ يحبّون الحياة ولكنهم يبتعدون عن الثقافة الإستهلاكية التي قد تكون مدمّرة للمجتمعات والشعوب.وفي المجال التكنولوجي المدني هناك تطبيقات روسية وشبكات تواصل إجتماعية خاصة ولكن ليس بنفس القدر الصيني والغربي الطاغي والمنتشر في كل أصقاع الأرض. وبالإنتقال إلى كل ما يُشاع حول معاداة الروس للإسلام والمسلمين ،فللتذكير فإن المسلمين يشكلون 14 بالمئة من عدد سكان روسيا (حوالي عشرين مليون نسمة ) والمجتمع الروسي ( الأرثوذوكسي محافظ بطبعه ومحب للأديان)، ومن لا يذكر من المتابعين للشأن الروسي إفتتاح بوتين للمسجد الكبير في موسكو ومسجد قلب الشيشان في الشيشان وطريقة دخوله وما تركته من تأثير في الشكل والمضمون …يعود برأيي هذا الإعتقاد الخاطىء لسببين : السبب الأول الحقبة السوفياتية المعادية للأديان وليس فقط للدين الإسلامي ، فالكثير من الأجراس التاريخية أُسقطت منذ الثورة البلشفية سنة 1917 وحتى سقوط الإتحاد السوفياتي عام 1991 حيث كانت القناعة سائدة أن الدين هو أفيون الشعوب ، ولكي تبقى الثورة متّقدة فإن فكرة المساواة بين الناس كانت تقتضي إلغاء الانتماءات سواء كانت دينية أو عرقية أو غيرها. السبب الثاني هو الحرب في افغانستان الذي كان حليفا للإتحاد السوفياتي وقد وقّعا سوية إتفاق دفاع مشترك ،وعندما بدأ الحراك ضد الحكومة الأفغانية ( المسلمة) طلبت دعم الإتحاد السوفياتي في أواخر عام 1978 الذي تدخل في كانون الأول 1979 فاستغلته الولايات المتحدة وصورت الحرب أنها ضد المسلمين وقد ظهر بعد سنوات كيف حاك الحرب هناك عدة دول أبرزها الولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية وباكستان الذي كان لها دور محوري بارز. لقد شدد وزير الخارجية الاميركي الأسبق في الخمسينيات جون فوستر دالاس أن إحتواء الإتحاد السوفياتي هو سياسة خاطئة إذ يجب الإنتقال من إخراج أوروبا الشرقية من الإتحاد السوفياتي إلى تفكيكه، وهو ما تحاول أميركا أن تنتهجه الآن . يبقى أكبر هاجسين للأمن القومي الروسي هما الإرهاب والمتصل بالجماعات الأصولية التكفيرية، والهاجس الثاني هي أسعار النفط وهو ما يُؤرق الروس ليلا ونهارا . لقد وصف ونستون تشرشل روسيا سنة 1939 بأنها لغز ملفوف في لُغز داخل لُغز . يبقى الروس مع حنكتهم وهدوئهم وبرودهم المستفز يحققون المفاجآت يمنة ويسارا ، ولكن هل سيستطيع الروس المحافظة على ثبات قواعدهم في المياه الدافئة؟ وأين سيكون موقعهم في الصراع الآخذ في التمدد بين التنين الصيني والعملاق الأميركي ؟ الأيام القديمة كفيلة بسبر أغوار تفكير القيصر الذي ساد وتمدد ويتمدد ……. سامر كركي كاتب ومتابع للشؤون الدوليّة والإستراتيجيّة