ما بين شموخ النيل ورسوخ البحر الأحمر يقبع السودان باضطرابات متنقّلة بعضها سياسي والآخر عسكري طبع الحياة بطابعه الخاص ، فلم يهدأ ولم يعرف الهناء منذ استقلاله عم 1956 إلا فيما ندر وذلك نتيجة لمحاولة السيطرة على الحكم أو الثورات أو الثورات المضادّة التي لم تبق ولم تذر. عانى السودانيون مع مختلف صنوف الحكم من يساري إلى إسلامي ، حيث ما برحوا يتذمّرون من سياسة التهميش بالإضافة إلى حروب متنقّلة مع الجيران ، إلى أن جاءت محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك في أديس ابابا والتي اتُهم فيها النّظام السوداني . أدّى هذا الإتهام إلى فرض عزلة دولية راكمتها أيضا أحداث الثمانينيات واستمر الكباش مع الغرب وخاصة الولايات المتّحدة حيث بقيت الحالة بين مدّ وجزر إلى أن سلّم البشير بسطوة الأميركيين وبعدها لم يسلَم، فسلّم الحكم بعد ثورة شعبية وضعت حدا لحكمه المستمر منذ ثلاثة عقود. وعندما يأخذ السودان حيّزا من الكلام يتصدّر إقليم دارفور بتشعّباته الحديث ، فالمشاكل عميقة ومتراكمة ، فالسودان أكثر دول العالم هشاشة (مؤشر الدّول الهشّة) وهوتعبير مهذّب لمفهوم أكثر فظاظة وهو الدّول الفاشلة.يعيش إقليم دارفور بمأساة كبيرة منذ 2003 ، فدارفور هي منطقة كبيرة تمتد من المطير في الجنوب ويتكون من ثلاثة اقاليم وفيها سلطات قبلية نجحت في إقامة سلطة على اساس سلطنة فيما مضى، وكانت همزة الوصل بين غرب القارة وشرقها ،وفيه جبل مرّة وله 81 قمّة.ذاع صيت هذا الإقليم عندما دخل في المنافسة بين جورج بوش الإبن ومنافسه عند ترشّحه للولاية الثّانية وكسِب أصوات الأفارقة وتدخّل في “دارفور” لإنقاذ الأفارقة من العرب على حدّ زعمه، حيث أسبغ بعدا عنصريا على صراع أهلي وصراع موارد . يبلغ عدد سكان هذا الإقليم حوالي 8 مليون وهناك 2 مليون منهم لاجئون .الصراع في دارفور بدأ صراع موارد (أحد تجلّيات التغيّر المناخي والذي أخذ شكل جفاف ثم تصاعد في الستينيات والسبعينيات وجاءت بعدها أنظمة سياسية وبعض القوى العالمية وأسبغت عليه صيغ مختلفة.انطلقت بعدها بعض الفصائل وحملت السلاح ضد “البشير”وكان انتماؤها قبليا وتتبنى وجهات نظر مختلفة منها ما هو ماركسي ومنها ما هو اسلامي وجميعهم يكنّون العداء للبشير ، إلى أن جاءت التسوية في الوقت الراهن في “جوبا” ووافقت الفصائل الثلاثة المتناحرة في دارفور على الدخول في الفترة الإنتقالية (حكومة مؤقّتة)ومُثّلوا في الحكومة الجديدة ، لكن تبقى المسألة الاساسية عملية التوازن المفقود بين المركز (الخرطوم) والأطراف سواء شمال شرقي السودان أو غربه ،حيث لهذه المناطق مقدرات كبيرة .وإذا عدنا بالزمن قليلا إلى الوراء، فالسودان لمن لا يعرف هو بلد منتج بنسبة 90 بالمئة للصمغ العربي والذي كان يخرج من كوردوفان وشرق دارفور إلى أن قامت حكومة البشير بتسليم منطقة ” الفشقة” إلى أثيوبيا فبدأت بإنتاج الصمغ العربي ونافست به الإقليم وزادته فقرا على فقر . من ناحية أخرى إقليم دارفور بحاجة إلى مشروعات من نوعية خاصة كمجموعة من السدود على الجبال لحجز المياه واستخدامها في أوقات الجفاف خاصة أن الإقليم الشمالي أكثر ” ندرة” وهناك أيضا وادي “ام الروابة” حيث تمشي المياه من الجبال إلى شمال دارفور إلى مجرى النيل الرئيسي ولا تصل كمية المياه المطلوبة للجزء الشمالي وتضيع مليارات الأمتار المكعّبة في الصجراء. يحتاج هذا الإقليم المترامي الأطراف إلى تنمية ،مبنية على رؤى واستراتيجيا تجنح نحو حل قضاياه التي تستنزف السودان مع الإشارة إلى احتواء القسم الشمالي من دارفور على خزان الحجر الرملي النوبي والذي يعتبر أكبر خزان جوفي في المنطقة (تشترك فيه السودان مع مصر وتشاد وغيرها). فما هي اتجاهات العمل بين “دارفور” والقوى السياسية في المركز(الخرطوم) وهل سيندمجون في المبادىء التي قامت على اساسها الثورة ؟ وما بين الأطماع القادمة من كل حدب وصوب واختبار القوى الثورية لقدرتها التمثيلية وسعيها للوصول إلى دولة مدنية ورغبة المؤسسة العسكرية بترسيخ الإستقرار ومحاباتها للغرب حيث لاحت صفقة التطبيع … ما هو دور الإقليم في تثبيت مفاهيم السيادة والأمن والرجاء الشعبي والسياسي في منطقة ملتهبة ومفتوحة على جميع الإحتمالات .؟ لننتظر ونرى….. سامر كركي كاتب سياسي ومتابع للشؤون الدولية والإستراتيجيّة