استمرار المواجهة تتصدر تركيا المشهد في الأسابيع الأخيرة بعد استدارتها الجديدة وجنوحها نحو التقارب مع مصر والخليج والأوضاع الداخلية المأزومة على أكثر من صعيد سياسي واقتصادي. وبعد ردح من الزمن ،عادت قضية الإعتراف ب”الإبادة الأرمنية” ، ولكن هذه المرّة جاء التصريح قاصما من الرئيس الأميركي جو بايدن والذي لا يفوت فرصة إلا وينتقد فيها الرئيس التركي تارة بوصفه ديكتاتورا وطورا بانتقاد سياساته التي دفعت تركيا لمراجعات عديدة في أكثر من منحى ، وحيث يظهر أن الودّ مفقود إلى أبعد الحدود بين الرجلين، فبعد مهادنة أميركية في عهد ترامب واعتماد سياسة ” غض الطرف” أو ” تركهم يلعبون داخل الدائرة المرسومة” ، جاء بايدن وبدأ الحسم في التعامل شكلا ومضمونا … اعترف الرئيس الأميركي جو بايدن أن الفظائع التي تعرّض لها الأرمن عام ١٩١٥ كانت إبادة جماعية ، وما إن أعلن ذلك حتّى عمّت الأفراح أرمينيا وأصاب الغضب الأتراك وازدادت العلاقة توترا . فما الذي جرى سنة ١٩١٥؟ بدأت الحرب العالمبة الأولى بين معسكرين ، المحور (النمسا ، ألمانيا والدولة العثمانية ) وبين الحلفاء ( فرنسا وبريطانيا وروسيا ) وكانت منطقة القوقاز إحدى مناطق الإشتباك وحيث يتواجد في شرقي الأناضول أقلية أرمنية تعيش في أراض منقسمة بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية .ومن الطبيعي أن يحاول كل طرف تجنيد الأرمن لمصلحته وخاصة بعد أن أراد العثمانيون مباغتة الروس وشنّ حملة كبيرة على القوقاز ، وكان هدفهم وقتها احتلال باكو ( عاصمة أذربيجان حاليا) ، لكن العثمانيين هزموا في معركة ” ساري قاميش ” وألقوا اللوم على الأرمن واعتبروهم متواطئين مع الروس وقاموا بإجراءات عقابية بحقهم ( تسريح من الجيش العثماني وإعدام العديد منهم بالإضافة إلى إعدام الكثير من النخب الأرمنية …) وفي العام مثار الجدل(١٩١٥)، سنّ العثمانيون قانونا يدعو لترحيل وتهجير الأرمن إلى دير الزور السورية حيث انطلقوا بمسيرات سميت بمسيرات الموت . الأرمن يقولون أن 1.5 مليون أرمني لقوا حتفهم أما الأتراك فيشددون على 300 ألف ويعتبرون ما حصل جزءا من من الفوضى التي عمّت الحرب العالمية الأولى وما حصل تداعيات امبراطورية كانت تتفكّك. كانت دول العالم تمتنع رغم توثيق العديد من المؤرخين والأرمن ما جرى عن طريق شهود وصحافيين وسياسيين وعسكريين من دول كثيرة بينهم حلفاء الدولة العثمانية (الألمان مثلا) ، ومع ذلك كانت الدول توازن بين مصالحها مع تركيا وارمينيا ، وعلى سبيل المثال اسرائيل والتي لم تتبن مصطلح الإبادة وهي التي تجمعها علاقات وثيقة مع تركيا وهي من أوائل الدول التي اعترفت بالكيان عام 1949 وبقيت العلاقات وثيقة على جميع الصعد (أمنية وسياسية واستخباراتية ) بالإضافة إلى العلاقات المميزة مع حليفة تركيا أذربيجان. وازنت العديد من الدول ما بين تركيا وأرمينيا حيث يقتصر الإعتراف ب” الإبادة” على حوالي 30 دولة بينها اليونان وقبرص وألمانيا وفرنسا وروسيا وإيطاليا ….) ولكن ما الذي يزيده اعتراف بايدن وما الذي يستفيده الأرمن؟ وفى بايدن بوعده الإنتخابي وهو ما لم يف به أوباما ولا بد من الإشارة إلى وجود لوبي أرمني قوي في الولايات المتحدة يتركز في لوس أنجلوس . أما الأرمن فيُعدون ذلك انتصارا معنويا وسياسيا وظّفه فورا رئيس الوزراء الأرمني حيث اعتبر أن الأرمن يجب أن لا يتعرضوا لإبادة ثانية (إشارة إلى ناغورنو قره باخ)واعتبر أن كراهية الأرمن هي جزء من خصائص القومية التركية في محاولة لاستجلاب تعاطف العالم معهم.الأمر الثاني مسألة الإساءة لإرث الإمبراطورية العثمانية التي يحرص الأتراك وخاصة حزب العدالة والتنمية على أن لا تتشوّه صورتها وتبقى بيضاء ممجدة . بالإضافة إلى مسألة التعويضات والتي كان تنطلق من دعاوى كانت ترفع في الولايات المتحدة والتي كانت ترفض وخاصة أنها تعتبر قضايا سياسية وهي غير مؤهلة للنظر فيه ، ولكن بعد الآن يصبح كل شيء ممكنا بعد اعتراف السلطتين التنفيذية والتشريعية ب ” الإبادة” ليفتح الباب على مصراعيه بدعاوى تقض مضاجع الأتراك لسنوات طويلة . سؤال يطرح نفسه ، لماذا جو بايدن؟ قطع الرئيس الأميركي وعدا انتخابيا ويريد إرضاء اللوبي الأرمني هناك وهو الذي يحمل لواء ” حقوق الإنسان ” كما أن هناك توترا وخلافا غير مسبوق في الجوهر ( الخلافات السابقة كانت على التفاصيل ) . أما الآن فتطرح أسئلة عديدة هل الأتراك حلفاء وأصدقاء؟ السياسات تحت حكم إردوغان! فالمشاعر المعادية لتركيا تزداد في الكونغرس بغرفتيه ….إضافة إلى تراجع أهميّة تركيا بالنسبة إلى الولايات المتحدة. لكن السياسة وما أدراكم ما السياسة؟ تديرها المصالح وهي التي تحدد شكل وأسلوب التعامل من دون الأخذ بعين الإعتبار لا نمطية الإدارة ولا طرائقها ولا حتى تشعباتها. فإلى اين سيسير الركب التركي ؟….. مع الهوى الأميركي أم مع هواه الخاص؟
سامر كركي إعلامي وكاتب في الشؤون الدولية والإستراتيجية