بقلم
سارة أبو مراد
وكانَ الضّيق علينا مثل حرف الميم” جملة كتبها الرّاحل عبده فرنسيس سام باسيل الدّرعونيّ إلى أقاربه في المهجر عن فتكات المجاعة. هكذا استهلّ الخوري إسطفان إبراهيم الخوري كتابه “مجاعة أهالي جبل لبنان خلال الحرب الكونيّة (1914-1918)”. فكان حرف الميم من موت، مجاعة ومأساة بمثابة قبرٍ مغلق، مطبق تمامًا كالحصار الذي أنهك شعبًا أزليًّا في هذه الزاوية القديمة من الشّرق الأدنى. هذا ما لا ينساه أوفياء جبل لبنان في ذكرى انتهاء الحرب العالميّة الأولى في 11 من شهر تشرين الثاني.هذه الأهوال خلّفت جراحًا لم تلتئم، مُحنّطةً في ذاكرة لبنان، تحديدًا جبل لبنان. نعم، تنتهي الحرب ويتصافح المتخاصمون ولا يبقى للإنسان سوى إحصاء أمواته، أحبابه. لكنَّ أمواتَ مجاعة جبل لبنان لمسوا هدب ثوب المأساة الإنسانيّة، لا بل ارتدوه.فترك شهودُ عيان نصوصًا تصف البؤس والحال الأليم الذي خيّم على جبل لبنان. فذكر المؤلّف لطف الله نصر البكاسيني “… ما تقشعّر له الأبدان أنَّ أولادًا أكلوا فضلات الناس الغليظة وهذا لم يسمع بمثله في حرب ولا مجاعة منذ وجد الإنسان.”وكتب الصّحافي إميل حبشي في كتابه “جهاد لبنان واستشهاده” عن الجثث المكدّسة على وجه الأرض، “فإذا مشيتَ فإنّما تمشي على عظام أخيك الإنسان، ومُنع دفن الأموات في المقابر التي امتلأت جُثثًا وقد فسدت الأرض وفسد الهواء”.كلّ هذه المشاهد، لم تبكّت ضمير السلطنة العثمانيّة آنذاك، التي أرادت أن تبيد أهل لبنان بالجوع كما قضت على الأرمن بالجلاء والضيق والسّيف، ففرضت الحصار البرّي ومنعت وصول القمح متذرّعة بأسبابٍ أهمّها تموين الجيش استعدادًا لحملاته العسكريّة، فوضع هذا الأخير يده على الحنطة وتحوّل إلى أوّل محتكر لها، ونفذ بعدها مخزون الجبل وعانى الناس الجوع يومًا بعد يوم. كذلك اعتمدت السلطات العسكريّة التركيّة والألمانيّة أساليب اضهاد مختلفة كالابتزازات، والضرائب، وإستئصال أشجار لا الغابات فقط، بل أيضًا حقول أشجار التوت، المورد الوحيد للبلاد. هذه حفنة صغيرة جدًّا ممّا تضمّنته المذكّرة التي قدّمها البطريرك الماروني الياس بطرس الحويّك إلى مؤتمر الصّلح عام 1919 بعنوان “مطالب لبنان”.
اختراع في أوج المأساة
إلى جانب الوحشيّة المرتكبة، دخلت جبل لبنان أوبئة جديدة ما بين عاميْ 1916-1917 كالحمّى الراجعة والتهاب سحايا الدماغ والحمّى التيفوسيّة التي انتشرت في صفوف الجيش العثماني أوّلًا، فسُمّيت الحمى العسكريّة. كان الوباء الأخطر الذي انتشر أكثر من غيره وأودى بحياة الكثيرين. إلّا أنَّ بارقة أمل لاحت في الأفق آنذاك، عندما اخترع رئيس دائرة الصّحة في جبل لبنان حسني محيي الدين بك آلةً بخاريّة لتطهير الثياب والأفرشة حتّى خفّ تأثير التيفوس على البلاد. يُذكر أنَّ انتشار هذا المرض كان في أقضية المتن، وكسروان، والبترون وزحلة أكثر منه في باقي الأقضية.
الرهبانيات تجنّدت لمساعدة الفقراء
بعد انتقام العثمانيين من الأخضر واليابس في لبنان، ليتركوا للجراد فتاتَ ما تبقّى، لم يهدأ صانعو السّلام في محاولة للملمة الجراح وإطعام الجياع، من محسنين مسيحيين ومسلمين. نذكر على سبيل المثال، بطريرك الروم الأرثوذكس غريغوريوس حدّاد الذي فتح أبواب البطريركيّة في دمشق أمام الفقراء من جميع المذاهب القادمين من لبنان والقرى السوريّة، ورهنَ صليبه الذهبي مقابل مبلغ أنقذ به حياة بعضهم من الموت جوعًا. كذلك رهبانيّة المخلصيّة للروم الملكيين الكاثوليك التي فتحت أبواب دير المخلص في جون للفقراء، وصار الرهبان يعجنون كل يوم 70 رطلًا من الطّحين لمئات الفقراء المجتمعين هناك. لا يسعنا أن نذكر أعمال المحبّة يومها من دون الإشادة بدور الكنيسة المارونيّة ومؤسساتها الكنسيّة وأفرادها ورهبانها. من فتح أبواب الأديار للجميع، وتوزيع الأرغفة على الجياع يوميًّا إلى رهن أملاكها أو حتّى بيعها كالرهبانية الأنطونية المارونيّة التي عانت احتلال العثمانيين لأديارها ومدارسها كدير مار أشعيا الذي صار قلعة جمال باشا، ومدرسة مار مارون بحنس ومار يوسف بحرصاف، ودير مار يوحنا القلعة ومدرستَي قرنة شهوان وبعبدا.حتّى تحوّل الكرسي البطريركي الماروني نفسه إلى مركز لتوزيع الطّعام على الجياع، وأصبحت أديار جمعية راهبات العائلة المقدّسة المارونيات التي أسسها البطريرك الياس الحويّك محطّات لتوزيع القمح والطعام تحديدًا ديريَ جبيل وعبرين.
من بيروت، كان يساعد أهل الجبل سريًّا
شارل قرم، شاعر لبنان الحضارة، الذي ولدَ في بيروت ونشأ فيها، صُعقَ من مأساة أهل جبل لبنان الذي أحبّ. ففي ذروة المحنة والمجاعة، أنشأ القرم في الأشرفية، ملجأيْنِ ليليينِ سريينِ كمأوى للاجئي الجبل المنكوب. لم يكتفِ بذلك، فقد ذكر الدكتور في الأدب جميل جبر في كتابه عن شارل قرم أنّ هذا الشاعر الملهم نظّم معسكرات نقّالة للعمل في جرود كسروان لكي يُمكّن الفلّاحينَ من البقاء في أرضهم. وهكذا يكون قد وفّر العمل لألفي عائلة في الكروم المهجورة. والدة شارل انضمّت إلى العمل الإنساني مع ابنها، فكانت تعصر كميّات كبيرة من الدّبس وتوزّعها على الفقراء وتطعمهم. إلّا أنَّ توثيق إجرام السلطات العسكريّة العثمانيّة كلّفته السّجن. فبينما كانت أرصفة بيروت تعجّ بجثث الجياع التي تنقلها الطنابر كجيف البهائم إلى الحُفر الجماعيّة، خرج القرم في خلال الليل المظلم وبيده مصباحه، لينقل رسوم مشاهد الضحايا المنطرحة في الزوايا. من بينها رسم أمّ تعضّ التراب وطفلها ميت يعانق رأسها وقد يبست يداه. فتمكّن رجال السلطة من مصادرة بعض الرّسوم وزجّه في السّجن. سطّر هذه الفواجع التي لم تغب عن وجدانه، في حكاية”الفصح” بعد 30 عامًا.”في ظلام اللّيل أُناديكُم هل تسمعون؟ مات أهلي وعيونهم محدِّقةٌ في سواد السّماءْ، في ظلام اللّيل أُناديكم هل تسمعون؟ مات أهلي وغَمرَتْ تِلالَ بلادي دموعٌ ودماءْ”، إنّه جبران خليل جبران ينشد بصوت فيروز مآسي أهل لبنان وإن خانتهم الذّاكرة، وخانت شعبهم الذي عاين الموت وغلبه، وإن تركوا الأجيال تسرح من دون ذاكرة أو تاريخ يقابلون من خلاله هويّتهم وجذورهم وعلّة وجودهم ووجود لبنان. نكتب عن المجاعة لا لنبش رماد الحقد على المرتكب إنّما وفاءً لصمود من سلم وضحّى من أجل الإنسانيّة تضحية حُرّة! ونترك ما قاله في نفسه الأب بطرس الخويري في تجواله في أعالي الجبال وأسفل الوديان بين الجياع:”مهما غالى المؤرّخونَ في وصف هذه الحرب يومًا ونقلها إلى الأجيال المقبلة، فلن يستطيعوا إلّا رسم ظلّ للحقيقة فقط”.